ممّا لا شكّ فيه، أنّ المقاو مة هي واجب إنسانيّ ووطنيّ قبل أن يكون دينياً..
وقليلون من ادّعوا الوطنية وأكملوا في مساراتها الشائكة وعملوا بأهدافها.. وكثيرون هم من باعوا مبادئهم الأصيلة وقضايا الأمّة المقدّسة عند أول مفترق طريق، إذ أخذ العدوُّ بأيديهم دون جُهدٍ يُذكر.. فقط، حفنة من المال، واللعب على أوتار الطائفية والمذهبية، وبعض الوعود بمكتسبات هنا وهناك، أو تهديد بهزّ العروش والمناصب، كانت كفيلة للتنازل عن الأوطان دفعة واحدة.. لتتحوّل الحكومات إلى قصورٍ خاوية عارية هزيلة حقيرة، يرتدي روّادها بذّاتهم الرسمية، كلٌّ حسبَ عاداتهم ، قصورٌ لديها مواعيدٌ وبرامجٌ تقتصرُ على تبادل الزيارات والغدوات وحفلات المجون والرقص على دماء الشرفاء.. هذا المشهد الموجز والمختصر، لأقول أنّ سبب هذا الاختلاف في مفهوم بناء الأوطان وحمايتها يعود لمستوى التمسّك بالأعراف والعادات وتعاليم الأجداد التي ترتكز على حبّ الأرض والنضال من أجلها، فالذين تعثمنوا آنذاك خوفاً من بطش الجزّار والأحكام العرفية كان سهلاً عليهم أن يتفرنسوا ويخلعوا عنهم صفات الرجل العربي من الطربوش إلى استبدال حروف الهجاء وتحريف بعض المعتقدات. والذين تأنكلوا أو تأنجلوا اقتنعوا بأنّ السير بوعد بلفور كان أسهل عليهم من حمل بندقية مهرّبةٍ بأكياس حنطة، أو الاختباء والاختفاء في مغاور الجبال، ليُلاحقهم كابوسُ المشانق المعلّقة والإعدامات الجماعية، ومن جيلٍ إلى آخر راحوا يخلعون ثوباً تلو ثوبٍ حتّى باتوا عُراةً، فكشفوا عوراتهم تحتَ شعار الانفتاح والحرية والسلام، وأغلقوا كُتبَ القرآنِ والإنجيل واكتفوا بهما شعاراً لغُرفهم وجنّازهم.. وراحت هذه النُّطف النجسة تنتقل من رحم إلى رحم إلى أن تأمركوا دون عناءٍ يُذكر.. فلمجرّد التلويح بعقوباتٍ كان كافياً ليأخذَ الحكامُ طفلَ البيت الأبيض المدلّل من حضنه ليتناقلوه ويداعبوه ويُطعموهُ، فيوفّرون له الرعاية والحماية من أيّ خطر يهدّدُ مستقبله، فهذه العقول الانهزامية الخانعة هي ليست إلاّ مزيجاً مركّباً من فكرٍ مُتوارَثٍ من جدٍّ خانعٍ إلى ابنٍ أخنع، ومن حفيدٍ جبانٍ إلى حفيدٍ أجبن، ومن حاقدٍ إلى أحقد ومن سافلٍ إلى أسفل..
ويبقى مصّاصُ الدماء المارق _ حيثُ يجرُّ جِراءَه الصغيرة المتكالِبة تلعبُ بين قدميه_ يواجهُ مارداً مُثقلاً غير مُتعَبٍ، وحيداً يحملُ قضاياه على ظهره وسيفاً بيده.. يحاربُ دون هوادة من أجل بقاء ذاك الإرث الطاهر.. مدافعاً عن عاداته وأعرافه ومعتقداته، مقاتلاً الأمركة كي لا يخسرَ أبناءَه خوفاً من أن يتصهينوا.
فلا يبقى ذكرٌ لعربي، ولا لدينٍ، ولا لمبادئَ ولا لمُثُلٍ عُليا ولا لأخلاق مُثلى.. فبدلَ العربيّ الممشوق المُهاب سيكونُ المخنّثُ (الممحون)، وبدلَ الرسالاتِ السماوية ستحكمُنا العلمانية، وبدل المُثل العليا سنمتثلُ لمثُلٍ سُفلى وأعلام بمختلف الألوان..
ولأجل هذا ذهب ابنُ أمير المؤمنين بعيداً عن مدينة جدّه، وليس خوفاً وإنّما رافضاً الذلّ والإقرار ومبايعة الظلم، ولأجل تأمين البيئة الملائمة لنهضته العظيمة التي قضت على الظالم فتهالك، ورُفعت على قبره رايةُ الذّل.. أمّا صاحب ثورة الحق فقد علا مقامُه، واستقامَت رسالته، وصلُحَت أمّةُ جدّه.. حتى باتَ شعاراً وسلوكاً لجميعِ المستضعفين في الأرض.
وها نحنُ أهلُ الحق الذي يميلُ معنا كيفما نميل، نحملُ شعار الحسين لنكملَ الإصلاح في أُممنا، ونمهّد الطريق لصاحب هذه الارض.. نمضي دون أن نعدَّ أرواحنا أو نحصيَ عديدنا، أو نلتفتَ خلفنا كي لا تهزّنا نعمومة أطفالنا ولا حجارة منازلنا المزركشة ولا دمعات زوجاتنا السخية.
فهذه المرّة لن نملأ القربة من مشرعة يزيد.. فقد قُطّعَت كفوفُنا قبل الشروع، وفُقِئت عيونُنا قبل امتطاء جواد المنية، ولكنّ البقيّة الأوفياءَ لأرضهم وعرضهم وترابهم ومقدّساتهم حملوا السلاح وعَضُّوا عَلَى نَاجِذِهم، وأَعاروا اللَّهَ جماجمهم، ووتِدوا فِي الْأَرْضِ أقَدَامَهم، ورموا بِبَصَرِهم أَقْصَى الْقَوْمِ، وَغضَّوا أبَصَارهم، وعلِموا أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ العزيز الجبّار.
يونس يونس
١٠ ت² ٢٠٢٤