كلير شكر- نداء الوطن
من تظاهرة العونيين أمام قصر العدل (رمزي الحاج)
ليس في مقدور أي كان أن يشكّك في الأسباب التي دفعت الناس إلى الشارع. هي النقمة ذاتها في طرابلس، صيدا، صور، كفررمان، بعلبك، جل الديب، الزوق، جبيل وبيروت… وحدها الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية هي القاسم المشترك بين روافد الطوفان الناقم على السلطة.
ولكن مع دخول الانتفاضة الشعبية يومها الثاني عشر، أظهر تدقيق بعض القوى الحكومية جملة ملاحظات:
– انحسار رقعة الانتقادات التي كانت لا تميّز في الأيام الأولى للحراك الشعبي، بين هوية الجالسين على كراسي الحكومة فتعاطت معهم على “قاعدة “كلن يعني كلن”، وانحصارها برئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل دون غيره، مع العلم أنّه من الدفعة الأخيرة للداخلين إلى جنّة السلطة. فيما بدا لافتاً تحييد رئيس الحكومة سعد الحريري بشكل كليّ عن مربّع الشيطنة، أسوة مثلاً برئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط الذي شطب اسمه بسحر ساحر عن القائمة السوداء.
– انحسار بقعة الاحتجاجات في الجنوب والجبل، لتبقى محصورة ببيروت وطرابلس والمناطق المسيحية، على نحو يشي وكأنّه صار لهذه الاعتراضات أجندة سياسية خاصة.
ترفع هذه الملاحظات من منسوب التشكيك بدخول عوامل خارجية على خطّ الحراك الشعبي الذي جعل من باسيل “المطلوب رقم واحد” في كل الجمهورية اللبنانية، فيما أنزِل بقية شركائه الحكوميين عن شجرة الانتفاضة وكأنهم غير مشمولين بالهتافات والاعتراضات.
ولكن هذا لا يعني أنّ رئيس “التيار الوطني الحر” ليس مأزوماً. لا بل هو الأكثر تضرراً وتهشيماً بما حصل في الشارع وهو الذي سيضطر إلى دفع الثمن الأكبر، من كيس “التيار الوطني الحر” قبل أي كيس آخر.
اذ لا تحجب حالة التمرد التي يقودها النائب شامل روكز على “تكتل لبنان القوي”، وتبعه فيها النائب نعمة افرام، حالة الفوضى غير المسبوقة، التي تضرب البيت البرتقالي، لدرجة أنّ مخيلات المعارضين العونيين لم تصل يوماً في سيناريواتها إلى حدّ توقع ما يحصل اليوم!
تصف شخصية حليفة لـ”التيار” واقع الحزب في اليوم الثاني عشر للانتفاضة، بأنه صار أشبه بنسخة جديدة لحزب “الكتائب”. من تسنى له رصد المجموعات التي تتبوأ واجهات ساحات الاعتراض في جل الديب والزوق وغزير وغيرها من المناطق المسيحية، لاحظ أنّ معظمها من الوجوه الشابة التي لم تبلغ الثلاثين من عمرها، بينما طغى “الخمسينيون” على الحضور ممن تمكّن “التيار” من اقناعهم بالنزول إلى الشارع تأييداً لرئيس الجمهورية ميشال عون في عدد من المناطق. وفي المقارنة بين المشهدين دلالات كثيرة على التحوّل الذي طرأ على “التيار”.
كان يمكن لرئيس “التيار” أن يجد من يمنحه بعض الأسباب التخفيفية، لو انّه لم يقف يوم 13 تشرين الأول الماضي في بلدة الحدت ليهدد خصومه بـ”النهر الجارف”. كان يمكن أن يجد من يغطّيه ببعض الحجج لو أنّه لم يفاخر بأنّ عديد “جيشه” الحزبي تخطى الثلاثين ألف حزبي يحملون البطاقة البرتقالية، و”الحبل على جرار” الخمسين ألفاً.
كان يمكن أن يجد من يتعاطف معه لو أنّه لم يخاصم ويستفزّ كل الناس، الحلفاء قبل الخصوم. كان يمكن له أن يجد من يعطيه فرصة جديدة لو أنّه لم يحوّل “التيار” إلى مصنع “تفقيس” المواقع الحزبية محطّماً الرقم القياسي بعدد المواقع المستحدثة والمعينة…. ومع ذلك، بالكاد وجد عدداً من الكوادر القادرة على تلبية نداء الدعم.
التنظيم في خريف العمر
مرت عشرة أيام على الانتفاضة الشعبية قبل أن تتجرأ قيادة “التيار” على الضغط على قواعدها للنزول إلى الشارع. وحين فعلتها بدا المشهد هزيلاً، خجولاً، وكأنّه تنظيم هرم صار في خريف عمره. لا تجاوب من جانب القاعدة لا بل ثمة اعتراف ضمني من جانب القيادات الحزبية بأنّ “الأرض فلتت من بين أيدينا”، فيما الضياع يصيب هذه القيادات ويمزقها التخبط بين جنوحها لتأييد الجانب المطلبي من التظاهرات وبين انتمائها الحزبي ولو أنّها مقتنعة أنّ القيادة مُدانة في أدائها.
يقول العارفون إنّ هذا التحوّل ليس ابن ساعته وانما ناتج عن سلوك قيادة “التيار” على مدى الأعوام الماضية. إلا أنّ رد فعل الجمهور بدا أشبه بالصاعقة التي حلّت على رأس الهرم. وحدها القيادات القديمة هي التي تمكّنت من العودة إلى الأرض سواء في بعبدا أو المتن أو جونية. وقد تجلّى التخبط من خلال سلسلة استقالات علنية عبّر أصحابها عن استيائهم من سلوك قيادتهم ازاء الانتفاضة الشعبية.
وبعدما بدا مبنى “المركزية” في ميرنا الشالوحي مع انطلاق الانتفاضة الشعبية، أشبه بمدينة أشباح، شهد خلال الأيام الأخيرة اجتماعات تقييمية مكثفة لقياديين من الحلقة اللصيقة برئيس “الحزب” وأعضاء من المجلس السياسي والقيادات الطالبية، تهدف إلى الإجابة على سؤال واحد: لماذا انجرف الرأي العام وراء الحراك الشعبي؟.
بالتوازي نشطت خطوط الهاتف في “المركزية” لتسأل كل منتسب يحمل بطاقة حزبية عن رأيه بما يحصل من حوله: هل تؤيدون الحراك الشعبي؟ ما هو رأيكم بموقف “التيار الوطني الحر” مما يحصل؟.
تسعى قيادة “التيار” من خلال هذا التحقيق الى رصد المناخ العوني ومدى تعاطفه مع الحراك، وذلك بعدما أصيبت القيادة بصدمة قاسية جراء عدم تجاوب القاعدة مع دعواتها للنزول إلى الأرض.
ورشة تقييمية
ويقول أحد المعنيين إنّ الورشة التقييمية التي يشهدها مبنى ميرنا الشالوحي تهدف إلى تقصي أسباب هذا “الخواء” والخروج بخلاصات لفهم الحالة النفسية للمنتسبين والانطلاق نحو المرحلة المقبلة. القناعة باتت راسخة أنّ “التيار” مأزوم في علاقته مع الجمهور ومع نفسه، وأنّ الوضع لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه. ولكن المعالجات لا تزال قيد الدرس.
وفق المعنيين، فإنّ رئيس “الحزب” يحاول تحميل المسؤولية لكيفية إدارة “الحزب”، بمعنى أنّه شخصياً ليس سبب هذه الانتكاسة وبالتالي تكمن المشكلة في الإدارة وليس في شخصه، أو في سوء شبكة التواصل مع القيادات الوسطية والقواعد. ومن هنا يبدأ العلاج. وثمة فريق ثانٍ يعتقد أنّ المعالجة تبدأ بتنحي باسيل عن الرئاسة، فيما فريق ثالث يعتقد أنّ الحاجة إلى توسيع بيكار القيادة باتت أكثر من ملحة للحفاظ على ما تبقى من عهد الرئيس ميشال عون.