كلمة… وشهادة في حضرة التقاعد
أكثر من أربعينَ عامًا في حقلي التربية والتعليم، ما يوازي ثُلُثي عمره قضاها بينَ التعاقد والملاك، بين التعليم والإدارة، واليوم ترجَّلَ الفارسُ عن صهوةِ جوادِه وآن الآوانُ لأنْ يختمَ آخرَ ختم على الوظيفة العامة التي قضاها في خدمةِ الأجيال وتنشئتها. إنه الأستاذ أحمد محمد حيدر.
عرفناهُ أستاذًا لنا في مرحلة المتوسط والثانوي ومديرًا وزميلًا في ثانوية السكسكية الرسمية التي تشرفَتْ بإدارتِه لمدة عشرين عامًا من العام ٢٠٠٤ وحتى العام ٢٠٢٤.
لا تكفي هذه المقالةُ للإحاطة بكافةِ الجوانب لهذه المسيرة التربويَّة الطويلة والزاخرةِ بالعطاء، وسنكتفي بالإضاءة على تجربة الإدارة التي تسلم زمامَها الأستاذ أحمد محمد حيدر لمدةِ عشرين عامًا وكان لنا شرفُ رفقتِه لمدة ستة عشر عامًا منذ العام ٢٠٠٨ / ٢٠٠٩ وحتى تاريخ تقاعده في ٩ أيار ٢٠٢٤ ولم نرَ منه إلا جميلا.
يوم قرَّر الأستاذ أحمد حيدر القبولَ بهذه المهمة لم يكنِ القرارُ سهلًا بل ثمة صعوبات وتحديات ليس أقلها ضعف الإمكانات والقدرات، والكثير من الحساسيات ناهيك عن المنطقة الزاخرة بالثانويات العريقة.
ويوم افتتحت ثانوية السكسكية كانت فرعًا من ثانوية عدلون الرسمية وكان طلابُها لا يتجاوزون الـ ٩٠ طالبًا، ومرَّتْ سنواتٌ عجاف كانت مُهدَّدةً بالدمج أو الإقفال وكان للمدير دورٌ بارزٌ مع فريقه الإداري في مدِّ جسور التواصل من أجل هذه المؤسسة والارتقاء بها، وبجهودٍ جبارةٍ ومباركة مع فعاليات البلدة استطعنا أن ننهضَ بهذا الصرح ونتجاوز الـ٢٣٠ طالبًا وأنْ نستقلَّ لاحقًا بمرسوم تسمية ثانوية السكسكية الرسمية وتاليًا ثانوية الشهيد نعمة مروة الرسمية السكسكية.
ومن ثانويةٍ متواضعةٍ إلى ثانوية مفعمة بالحياة والعلم والتربية والنشاطات الفنية والثقافية والترفيهية والرياضية… ومجهزةٍ بكافة التجهيزات الحديثة والملاعب والقاعات وليس آخرها قاعة مجلس الأهل للنشاطات التي تفتقر إلى مثلِها الكثيرُ من الصروح التربوية، وكل ذلك بجهود مجالس الأهل المتعاقبة وبإشرافٍ مباشرٍ من المديرِ وتوجيهاته، وقد ضَمَّتْ الثانويةُ كافة الفروع في الشهادات الرسمية وحققَّتْ النتائجَ الباهرة في الامتحانات الرسمية وحفرَتْ اسمَها في سجلِّ المتقدِّمين، وهي تحوي أهمَّ الكوادرِ والنُّخبِ من الأساتذة والمعلمات الذين تركوا بصماتِهم في أذهان الخريجين الذين صاروا أطباء ومحامين ومهندسين وبرعوا في كافة المجالات والاختصاصات، وحصلَ العديدُ منهم على منحٍ جامعية من أهم وأعرق جامعات لبنان.
لم يكن لهذا الصرح التربويِّ أن يشمخ كقرميده اللامع إلا بإدارةٍ حكيمة ورائدة بقيادة الأستاذ أحمد حيدر الذي قد تختلف معه في الكثير من التفاصيل إلا أنك تنحني أمام طيبةِ قلبه وتواضعه ورحابةِ صدره ورعايته الأبوية والأخوية، وهو الذي حوَّل الثانويةَ إلى أسرةٍ تربويةٍ متحابة، وكسَّر كلَّ الحواجز بينه وبين زملائه وطلابه وأهاليهم. بابُ إدارته مفتوحٌ للجميع لا يخاطبُ أحدًا من بُرجٍ عاجيٍّ ولم يزيِّن إدارتَهُ بالأثاث والزخارف وهي تشبه أخواتها من الغرف، وأكثرُ تواجده بيننا في غرفة المعلمين والنظارات والممرات والمكاتب.
وكان لنا شرفُ العمل معه باللجنة المالية ولسنواتٍ طوال حيث كان حريصًا على كلِّ ليرةٍ، دقيقًا في حساباته، متقدِّمًا في إعداد الموازانات، ضليعًا في الأرقامِ والحسابات، ولم يترك جهدًا من أجل رفد مالية الثانوية بالتقديمات والتبرعات من أصحاب الشأن وأيادي الخير.
ويُسجَّلُ للأستاذ أحمد حيدر أنه وبالرغم من استطاعته أن يكمل تعليم أبنائه في أي ثانوية خاصة إلا أنه نجح في الرهان فكان أبناؤه من خريجي الثانوية، شأنهم شأن زملائهم تفوقوا في المرحلة الثانوية وتاليًا في دراساتهم العليا فكانوا رُسُلَ التفوقِ وصورةً نقيةً حملوا اسمَ ثانويتهم وأساتذتها في صدورهم ومهروها بأعلى شهاداتهم.
لكل بداية نهاية، والعطاءُ الجميلُ والزَّرعُ الطيبُ لا يموتُ ولا تمحوه السنون، وإن كان التقاعد سنةً وظيفية سيبقى الأستاذُ أحمد حيدر شجرةً مثمرةً غنية بالخبرات والتجارب نجني منها الحكمة والرشاد وحبَّ العمل، ونسأل اللهَ له تقاعدًا مباركًا وعمْرًا مديدًا مكللًا بالصحة والعافية والخير والصلاح.
بقلم الأستاذ درويش سبليني
٩ أيار ٢٠٢٤