وتستمرّ حكايات أم حسن وأبي حسن علّول مع الصبر والاحتساب..
فبعد أن فقدا غديرهما منذ سنوات وهي في أشهرها الأولى وبعد رحلتهما الطويلة في علاج صغيرهما مصطفى الذي منّ الله عليه بالعافية إثر عمليّة زرع كبدٍ منذ سنوات، حطّت طائرة “النداء الأخير” في مطار بِكرهما “حسن” حاملةً على متنها الإمتحان والابتلاء، والعزّة والفخر والإباء، والبركة والمجد والعزاء، على حدٍّ سواء..
كان أبو حسن وخلال سنوات معرفتي به التي اقتربت من العشرة يدعوني باستمرار لزيارته في بلدته “السكسكية”، ورغم وجود النيّة لكنّ الزيارة لم تحصل، ولا أخفيكم بأنّني عضضتُ أصابعي ندامةً لأنّني لم أتعرّف على “الشاطر حسن”، المبدع حسن، الرائع حسن..
ورغم أنّني خسرت لقاء هذا الحسن والتعرف عليه إلّا أنّ الشهيد البطل حسن علّول أتى بي إلى بلدته الجميلة بتوقيته وزمانه..!
لقد نجح حسن بجمعي بوالديه وأخيه مصطفى أحد أبطال روايتي #إمعانافيالحياة بعدما أخفقتُ على مدار سنوات..
محاولةٌ واحدةٌ من حسن أتت بي إلى “السكسكية” مطأطئ الرأس منكسر القلب، صور حسن تملأ المكان، يكاد من شدّة بهائه يخرج منها ليرحّب بالوافدين..
بلا مبالغة حضرتُ إلى “السكسكية” لأعزّي والدي حسن فاستضافاني وأحسنا عزائي وهدّآ من روعي وكأنّني أنا صاحب العزاء، ولمستُ لمس اليد أين نشأ حسن وكيف نما وترعرع ولماذا اختاره الله من الشهداء..
حسنُ الإسم والمسمّى خفيف الظلّ والهني منذ نعومة أظافره أحبّ الحياة بكلّ ما أحلّه الله له، لكنّه عشق الشهادة..!
كان مولعًا بالدراجات النارية الكبيرة ومحترفًا ومستشارًا في اختيار العطور واجتماعيًا من الطراز الرفيع إلى درجة أنّه سكن قلوب كلّ أصناف البشر كبيرهم وصغيرهم فقيرهم وغنيّهم متعلّمهم وأمّيّهم مؤمنهم وملحدهم عاقلهم وبسيطهم رفيههم وبائسهم..
لكنّه كان شغوفًا بالمدفع والصاروخ وأزيز الرصاص ونداء الواجب والتكليف ونصرة الملهوف وصون الكرامة والدفاع عن الأرض والجهاد في سبيل الله..
حسنٌ هذا كان ينبض بالحياة، كان يدرس ويلعب كرة القدم ويركب دراجةً نارية ويحبّ ويعشق ويخرج مع أصدقائه.. لكنّ حبّه للحياة كان يبدأ بحبّ الله وينتهي به، فكان يحبّ الصلاة والدعاء والمناجاة وزيارة الحسين (ع)..
“يا ليتنا كنّا معكم” كانت تنبع من قلبه قبل أن تجري على لسانه..
إلى أن جاءت لحظة التلبية.. فلبّى النداء..!
كان من المفترض أن يغيب “حسن” لأربعة أشهر متتالية لكنّ أداءه في الميدان جعل مسؤوله يعطيه يومين من الراحة كمكافأة تمكّنه من الإفطار مع أهله وقضاء بعض الوقت معهم بعد غياب أكثر من شهرين..
أنهى حسن عطلته القصيرة سريعًا رمى خلالها بين طيّات كلامه وتصرّفاته مع الأقربين بضع كلمات وإشارات تدلّ على أنّه أصبح جاهزًا للعبور!
لكنّ هذه “الشيفرة” تحتاج لحسن آخر كي يفكّكها ويفهمها في وقتها..
عاد إلى الميدان وعاد مربضه للدك والفتك والعزف على وتر وحي محمّد وولاية علي وثورة الحسين وراية العباس..
وبعد أن أذاقهم من بأسه كأسًا دهاقا حزم ابن الواحد والعشرين ربيعًا حبّه وعشقه وشوقه وهيامه وأمانيه، وقبل أذان المغرب من ليلة القدر الكبرى وهو صائمٌ زرع جسده قرب مربضه وسقاه من نجيعه..
أسلم الروح و”الله أكبر” من أذان المغرب شاهد على شهادته..
وكما سلام ليلة القدر بقي جسده المخضّب في أرض الميدان حتى مطلع الفجر ..
روح حسن تحلّق نحو الملكوت الأعلى ودعاء أبي حمزة الثمالي من أم حسن وأبي حسن يزفّها إلى الرفيق الأعلى دون أن يعلما بشهادته..
طلع الصباح وسرعان ما انتشر الخبر ووصل إلى من لم يقل لهما أف وطالما قال لهما قولًا كريما..
وكالعادة أبو حسن وأم حسن ديدنهما الصبر والاحتساب والرضا والتسليم وما بدّلا تبديلا ..
#السكسكية التي تقع على كتف البحر طافت ببحرٍ من البشر في تشييع حسن، من عرفه ومن لم يعرفه من رآه ومن لم يره من سمع عنه ومن لم يسمع, واستقرّ هذا السعيد في مثواه الأخير آخر نهار جمعة من شهر رمضان في يوم القدس شهيدًا على طريق القدس..
لعلّها كرامة ربّانية، لقد زرع الله حبّه في القلوب فامتلأت بالمحبين الدروب..
رحل حسن الجسد وبقي حسن الروح والعزم والبأس والطيبة والحب والفداء…
رجعتْ نفس حسن المطمئنة إلى ربّها راضيةً مرضيّة وبقيت نفوسنا حائرةً عن سرّ “رضوان” الوجه الآخر لحسن الذي ما عرفه بعيد ولا قريب حقّ المعرفة، حتى أبو حسن نفسه بدأ بالتعرّف عليه بعد رحيله…
هاشم يوسف نورالدين